علي بن محمدالرباعي يكتب//القُربان الخُرافي وسكين القذافي…

629

قبل ما يزيد على عقدين سافرتُ أدرس لغة إنجليزية في مدينة برايتون البريطانية، وتعرفتُ على بائع لحوم ليبي، وكنا إذا خلا المحل نفتح حوارات. قال لي ذلك الشاب المثقف؛ هل تعلم أن الملك السنوسي دعا على الليبيين عندما ناصروا انقلاب القذافي عليه «باللهم أدخلهم في تيه كتيه قوم موسى لا يخرجون منه أربعين سنة». وأضاف اللحام ساخراً «بحمد الله قضينا ثلاثين عاماً تائهين وبقي علينا عشرة أعوام»، كان مؤمناً بما يقول ليقينه أن أيام الملكية لا تقارن بالسوء اللاحق، ولأن السنوسي ملك صالح مستجاب الدعاء، كما قال.

مرت الأيام وسقط القذافي بعدما استوفى عاماً وبعض العام فوق الأربعين وتذكرتُ قراءة الليبي المغترب وعرضتها على مسمع أحد المثقفين الخليجيين الذي سبّح وحوقل وقال أزيدك من السرد قصة، وبدأ يروي حكايته مع القذافي. حيث تمت دعوته للمشاركة في مؤتمر قومي برعاية وريث القومية، وبإشراف ابنته عائشة، اختاروا صاحبنا متحدثاً رسمياً في الافتتاح، فأثنى على القذافي بما ليس فيه، وكانت الكلمة منقولة تلفزيونياً، فأرضت غرور المتغطرس، ووجه بأن تكون برنامج عمل المؤتمر، ثم دعا الضيف لمقابلته، وذهب مع السائق وفي الطريق لفته مبنى عليه سور مرتفع يمتد قرابة اثنين كيلومتر، فسأل السائق؛ هل هذا السور لمبنى حكومي أو ثكنة عسكرية فأجابه «هذه مصحة عقلية» !.

أدخلوه الخيمة، وقدم بطل الفاتح من سبتمبر باللبس التقليدي والعباءة وأخذه بالأحضان، وما إن جلس وطلب الشاي، حتى بادره بسؤال: ما أبرز ما لفت نظرك في بلادنا؟ فأجاب المثقف بعفوية: مبنى المصحة العقلية المحتل تلك المساحة من أرض العاصمة، وما كاد ينهي جملته حتى وقف القذافي والتف بعباءته بغضب وخرج وتركه.

قال صاحبنا: بقيت وحدي في الخيمة أتلفت حولي. يبست شفاهي وجمد الدم في عروقي واستحضرتُ الإمام موسى الصدر، وبعد دقائق لا أطول منها جاء السائق وطلبني أقوم معه فقمت بصعوبة وركبت السيارة وفقدت القدرة على الكلام وتصورت أن الأوامر صدرت بإعدامي فكلما حرك السائق يده فززت خوفاً، وعندما وصلنا الفندق اتصلت بأحد السفراء وطلبته يأتي ليأخذني عنده حتى يوم المغادرة، قال؛ لم أشعر بالطمأنينة حتى حطت الطائرة في مطار القاهرة.

من رزايا الدهر وعجائب الأيام أن يحكم القذافي شعباً أبياً كريماً، وأن يتطلع مرضى نفسانيون لإقامة الخلافة في بلاد شرعها الإسلام وعقيدتها التوحيد وشعوبها مبايعة قيادتها على السمع والطاعة، وبما أن «شبيه الشيء منجذب إليه» فإن القاسم المشترك بين رموز الإخوان والسرورية والقذافي يتمثل في الهستيرية الناجمة عن تزكية ذوات، وتفسير منامات، والتحليق بخيالات ترسم مخططات فنتازية لا إمكان لتحققها لأنها خارج منطق التاريخ ويرفضها الواقع ولا يقبلها المواطنون العقلاء والمنتمون الشرفاء، تفادياً للدخول في التيه مجدداً.

أنصع مثال على اللؤم أنه حين كانت المملكة تمنح الإخوان المال وتتيح لهم المناصب كانوا يتآمرون عليها، كما القذافي الذي أنقذته وحلت له قضية لوكربي، وكان المعتوه يتحالف مع الدونيين للنيل من البلاد التي أحسنت إليه !

لم يقرأ القذافي الإسلام السياسي جيداً وهو معروف بالحماقة وظن أنه قادر على نحر القربان بسكينه والدفع به للمحرقة لتأكله النار دون أن يصلاه اللهب، فسبقوه وأسهموا في التخلص منه وإنهاء حياته بإشراف تنظيم الحمدين وبصورة مقززة، وكأساطير الصعاليك ثأر منهم بالتسجيلات بعد موته !.

السؤال الضروري اليوم أيهما أصلح لإدارة المجتمعات وتأمين حياة الشعوب (الدولة أم الجماعات المتطرفة) ؟

وماذا يخطر ببال كائن سوي عندما يسمع مصطلح (جماعة مسلحة)، ألا يستحضر العصابات وقطاع الطرق والغزاة والمفسدين ومحاربي الله ورسوله.

تؤكد الأحداث أن ربيب الفكر الخارجي لا يؤمن بوطن ولا يعترف بالمدنية ولا يحترم العهود ولا يأبه بالقوانين، ويقسم العالم إلى فسطاطين كفر وإسلام ليبرر نشوب المعارك، وإن لم تتوفر الظروف لمحاربة ما يطلقون عليها دار حرب انقسموا على أنفسهم وتحاربوا فيما بينهم، والشواهد قائمة في عرض الجغرافيا العربية والإسلامية وطولهما.

إن كان البائسون نجحوا في تصفية القذافي مادياً فقد صفاهم معنوياً، ولا يزال في الجعبة الكثير مما سيفضح أمرهم ويهتك سترهم وينكس رايتهم ويسود وجوههم، وكما أسقطوا أحمق سيسقطون المزيد من الحمقى ويسقطون مرة تلو مرة.

إذا كان من كرامات حقيقية فهي لبلاد الحرمين، التي لم توجد صُدفة وإنما أنبتها الله وأكرمها بمن هو أهل لقيادتها وحرسها من أبرهة الأشرم والقرامطة والفرس والترك، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يُصلح عمل المفسدين، ومن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.